الورع - روائع القصص
- عن الحسن ، قال :
بينما عمر بن الخطاب يمشي ذات يوم في نفر من أصحابه
إذا صَبِيَّة في السوق يطرحها الريح لوجهها من ضعفها ،
فقال عمر : يا بؤس هذا ! مَن يعرف هذه ؟
قال له عبد الله : أوَ مَا تعرفها ؟! هذه إحدى بناتك .
قال : وأي بناتي ؟ قال : بنت عبد الله بن عمر .
قال : فما بلغ بها ما أرى من الضيعة ؟
قال : إمساكك ما عندك .
قال : إمساكي ما عندي عنها يمنعك أن تطلب لبناتك ما تطلبُ الأقوامُ ،
أما والله ما لك عندي إلا سهمك مع المسلمين ، وسعك أو عجز عنك،
بيني وبينكم كتاب الله [1] .
======================
- لما حضرتْ عمرَ بن عبد العزيز الوفاةُ دعا بنيه وكانوا أحدَ عَشَرَ رجلاً،
ولم يخلف غير بضع عشر دينارًا ، فأمر أن يكفَّن ويُشْتَرَى له موضعٌ
يُدفن فيه بخمسة دنانير ، ويقصد المال على وارثيه ، فأصاب كلّ ابن منهم نصف دينار وربع دينار،
وقال :
يا بني ، ليس لي مال فأوصي فيه ، ولكني قد تركتكم وما لأحد عندكم تبعة ،
ولا يقع على أحد منكم عين أحد إلا ويرى لكم عليه حقًّا .
فقال له مسلمة بن عبد الملك:
أَوَ خير من ذلك يا أمير المؤمنين .
قال : وما هو ؟
قال : هذه ثلاث مائة دينار ، فرِّقها فيهم ، وإن شئت فتصدق بها ، وأوص فيها بما شئت .
قال :
أَوَ خير من ذلك يا مسلمة ، تردُّها إلى مَن أخذتها منه ، فإنها ليست لك بحقٍّ .
ثم قال :
إن ولدي أحد رجلين : فإما صالح فالله يتولَّى الصالحين ،
وإما فاسق فلا أحب أن أترك له ما يستعين به على معصية الله.
فقال مسلمة :
يرحمك الله يا أمير المؤمنين حيًّا وميتًا ، فقد ألنت لنا قلوبًا قاسية ،
وذكرتها وكانت ناسية ، وأبقيت لنا في الصالحات ذكرًا .
فيقال :
إنه ما رُئِي أحد من أولاد عمر بن عبد العزيز إلا وهو غني ،
ولقد شوهد أحدهم وقد جهز من خالص ماله مائة فارس على مائة فرس في سبيل الله تعالى ،
ولما حضرت هشام بن عبد الملك الوفاةُ خلف أحد عشر ابنا كما خلف عمر بن عبد العزيز،
وأوصى ، فأصاب كل ابن ألف ألف دينار،
فقال :
إنه ما رُئِي أحد منهم إلا وهو فقير [2] .
=======================
- قال أحمد بن سهل :
مات أبو علي المَنْجُورَاني ، فخرجنا نعزي ابنه علي بن محمد ،
فلما رجعنا من دفن أبيه نزع ثيابه ، ودخل الماء في نهر،
وقال :
اشهدوا أني لا أملك اليوم شيئًا مما ورثت عن أبي ؛ لأنه يتخالج في صدري ،
فإن واسيتموني بقميص حتى أخرج من الماء فعلتم .
قال :
وكان لنا صديقًا مؤانسًا ، فألقوا إليه قميصًا ، فخرج من الماء .
وكان أبوه ترك مالاً لا يحصى [3] .
===========================
- عن يوسف بن أسباط،
أن الثوري وابن المبارك اختلفا في رجل خلف متاعه عند غلامه،
فباع ثوبًا ممن يكره مبايعته ،
قال :
قال الثوري : يخرج قيمته ،
يعني قيمة الثوب .
وقال ابن المبارك :
يتصدق بالربح .
فقال الرجل :
ما أجد قلبي يسكن إلا أن أتصدق بالكيس .
وقد كان ألقى الدراهم في الكيس .
فقال أبو عبد الله [4] :
بارك الله فيه [5] .
=========================
- عن عبد الله بن راشد صاحب الطيب ، قال
أتيتُ عمر بن عبد العزيز بالطِّيبِ الذي كان يصنع للخلفاء من بيت المال ،
فأمسك على أنفه ،
وقال :
إنما يُنتفع بريحه [6] .
- قدم على عمر بن الخطاب مسك وعنبر من البحرين ،
فقال عمر:
والله لوددت أني أجد امرأة حسنة ،
تزن لي هذا الطيب حتى أفرقه بين المسلمين .
فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل :
أنا جيدة الوزن ، فهلم أزن لك .
قال : لا .
قالت : ولم ؟!
قال : إني أخشى أن تأخذيه هكذا
- وأدخل أصابعه في صدغيه -
وتمسحين عنقك ،
فأصيب فضلاً عن المسلمين [7] .
======================
- عن فاطمة ابنة عبد الملك ، قالت :
اشتهى عمر بن عبد العزيز يومًا عسلا ً، فلم يكن عندنا،
فوجَّهنا رجلاً على دابَّة من دوابِّ البريد إلى بعلبك بدينار، فأتى بعسل ،
فقلت :
إ نكَ ذكرتَ عسلاً ، وعندنا عسل ، فهل لك فيه ؟
قالت :
فأتيناه به فشرب ،
ثم قال : من أين لكم هذا العسل ؟
قالت :
وجَّهْنَا رجلاً على دابَّة من دوابِّ البريد بدينار إلى بعلبك ،
فاشترى لنا عسلاً . فأرسل إلى الرجل ،
فقال : انطلق بهذا العسل إلى السوق فبعه ،
واردد إلينا رأس مالنا ،
وانظر إلى الفضل فاجعله في علف دواب البريد ،
ولو كان ينفع المسلمين قيء لتقيَّأت [8] .
======================
- كان سفيان الثوري وسليمان الخوَّاص بمنى ، فقال :
امض بنا إلى هذا - يعني الخليفة - حتى نأمره . فدخل سفيان ،
فقال له : ادنه .
فقال : لا أطأ على ما لا تملك .
قال : يا غلام أدرج . فأدرج البساط .
فقال له سفيان : كم أنفقت في حجتك ؟
قال : لا أدري .
قال : لكن عمر بن خطاب أنفق ستة عشر دينارًا ،
وقال : أجحفنا ببيت المال . وأنت قد أنفقت الأموال .
فقال له أبو عبيد الله : شطت ، تكلم أمير المؤمنين بمثل هذا .
فقال له سفيان : اسكت ، ما أهلك فرعون إلا هامان .
فلما وَلَّى سفيان ،
قال : يا أمير المؤمنين ، ائذن لي أضرب عنقه .
فقال له : اسكت ، ما بقي على وجه الأرض مَن يُسْتَحْيَا منه غير هذا [9] .
==================
- عن مسلمة بن عبد الملك ، قال :
دخلت على عمر بن عبد العزيز بعد الفجر في بيت
كان يخلو فيه بعد الفجر فلا يدخل عليه أحد،
فجاءته جارية بطبق عليه تمر صيحاني [10] ،
وكان يعجبه التمر فرفع بكفِّه منه ،
فقال : يا مسلمة ، أترى لو أن رجلاً أَكَلَ هذا ،
ثم شرب عليه من الماء على التمر طيب أكان مجزئه إلى الليل ؟
قلت : لا أدري .
قال : فرفع أكثر منه ،
فقال : هذا ؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، كان كافيًا دون هذا ،
حتى ما يبالي أن لا يذوق طعامًا غيره .
قال : فعلام يدخل النار ؟
قال مسلمة : فما وقعت مني موعظة ما وقعت هذه [11] .
====================
- عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري،
أنه خرج إلى عمر فنزل عليه ، وكانت لعمر ناقة يحلبها ،
فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنًا فأنكره ،
فقال : " ويحك ! من أين هذا اللبن ؟ "
فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الناقة انفلت [12] عليها ولدها ،
فشرب لبنها، فحلبت لك ناقة من مال الله .
فقال له عمر : ويحك ! سقيتني نارًا ،
ادعُ لي علي بن أبي طالب . فدعاه ،
فقال : إن هذا عمد إلى ناقة من مال الله ، فسقاني لبنها أفتحله لي ؟
قال : نعم يا أمير المؤمنين ، هو لك حلال ولحمها ،
وأوشك أن يجيء من لا يرى لنا في هذا المال حقًّا [13] .
==================
- عن العباس بن سهم،
أن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن ،
فرفعت يديها من العجين ،
وقالت :
هذا طعام قد صار لنا فيه شريك [14] .
- عن الشعبي ، قال : جاء رجلان إلى شريح ،
فقال أحدهما : اشتريت من هذا دارًا فوجدت فيها عشرة آلاف درهم .
فقال : خذها .
فقال : لِمَ إنما اشتريت الدار؟!
فقال للبائع : خذها أنت . قال : لِمَ و قد بعته الدار بما فيها ؟!
فأدارا الأمر بينهما فأبيا ، فأتيا زيادًا فأخبراه ،
فقال : ما كنت أرى أن أحدًا هكذا بقي .
و قال لشريح : ادخلْ بيت المال ،
فألقِ في كل جراب قبضة حتى يكون للمسلمين .
ثم قال للشعبي : كيف ترى الأمر ؟
قال أبو بكر بن عياش : أعجبه ما صنع [15] .
====================
- كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاحًا بين الناس ،
فجاء ابنٌ له وأخذ تفاحة من ذلك التفاح ، فوثب إليه ففكَّ يده ،
فأخذ تلك التفاحة فطرحها في التفاح ، فذهب إلى أُمِّه مستغيثًا ،
فقالت له : ما لك ، أي بني ؟
فأخبرها ،
فأرسلت بدرهمين فاشترت تفاحًا ،
فأكلت وأطعمته ، ورفعت لعمر ، فلما فرغ مما بين يديه دخل إليها ،
فأخرجت له طبقًا من تفاح ،
فقال : " من أين هذا يا فاطمة ؟
" فأخبرته
فقال : " رحمك الله ، والله إن كنت لأشتهيه " [16] .
=======================
- عن قتادة قال: كان معيقيب على بيت مال عمر،
فكنس بيت المال يومًا، فوجد فيه درهمًا ، فدفعه إلى ابن لعمر،
قال معيقيب : ثم انصرفتُ إلى بيتي ،
فإذا رسول عمر قد جاءني يدعوني ، فجئت ، فإذا الدرهم في يده ،
فقال لي : " ويحك [17] يا معيقيب ،
أوجدتَ عليَّ في نفسك شيئًا ؟
قال : قلتُ : ما ذاك يا أمير المؤمنين ؟
قال : " أردتَ أن تخاصمني أمة محمد في هذا الدرهم " [18] .
=======================
- عن فرات بن مسلم ، قال :
كنت أعرض على عمر بن عبد العزيز كتبي في كل جمعة ، فعرضتها عليه ،
فأخذ منها قرطاسًا قدر أربع أصابع ، فكتب فيه حاجة ،
قال : فقلت : غفل أمير المؤمنين .
فأرسل من الغد : أن جئني بكتبك . قال : فجئت بها ،
فبعثني في حاجة ،
فلما جئت قال لي : ما لنا أن ننظر فيها ؟
قلت : إنما نظرت فيها أمس .
قال : فاذهب أبعث إليك، فلما فتحتُ كتبي وجدت
فيها قرطاسًا قدر القرطاس الذي أخذ [19] .